جار ئەم لاپەڕە بینراوە

السبت، 24 مايو 2008

أرامل الأنفال وما بعد المأساة


بقيت مآسي الأنفال كفضاء واسع تتآكل فيه روافد الضحايا والمعتقلين والمؤنفلين والمعدومين ، فبعد أن عاشت هذه الروافد أيام الإنتظار والصمت والخوف اصطدمت بهول المقابر الجماعية وتحولت الى جسد ثقيل حزين لا تدركه جغرافيا السياسة والإعلام والثقافة .أركز هنا على الآثار الإجتماعية والنفسية التي تركتها الأنفال داخل المجتمع الكردي ، بالإضافة إلى التركيز على الأسئلة التي طرحها حجم تلك العملية الإستئصالية في ظل صمت دولي وإقليمي سمح لجماح الرغبة في القتل لدى حزب البعث في العراق في التوسع عبر جميع الوسائل المتاحة . وكانت الوسيلة الفعالة في تنفيذ " الأنفال " ، هي خوض معركة وجودية خارجة عن منطق الحروب التقليدية التي تعتمد المال والسياسة والجغرافيا والدين ، رغم أن صدام حسين كان قد استخدم الصبغة الدينية وأستعار منها إسم الأنفال لعمليات الإبادة التي اقترفها في كافة أنحاء كردستان .وضعت الأنفال المجتمع الكردي أمام تجربة تاريخية قاسية مع خيالات نظام فاشي تمت مقاربتها مع الواقع وفق مشروعية الجسد الكردي للتنكيل ، وكان " المُحال " في تلك المقاربة بين خيال البعث والموت والواقع هو بقاء شيء من الواقع ولهذا قال "علي كيمياوي " في إجتماعه مع دوائر الأمن والمخابرات العسكرية والفرق البعثية في مدينة أربيل عام 1987 : ( لايبقى منزل واحد في القرى الكردية في سهول أربيل باستثناء القرى العربية . أنا أشرف بنفسي على العملية وإذا بقي منزل واحد سأعرف ماذا أفعل يالقيادة المسؤولة عن العملية ) . وقد تم تنفيذ جميع أوامر " الكيمياوي " بعد أن نصبه صدام حسين القاتل الأول في كردستان بقرار رسمي صادر من مجلس قيادة الثورة . على المستوى التقني للعملية استخدم البعث " الرعب القياسي " في تنفيذ خطته العسكرية ، وقصف للوهلة الأولى القرى قصفاً جوياً وبرياً ثم بدأ بهجوم شامل شاركت فيه القوات العراقية النظامية والحرس الجمهوري والاستخبارات العسكرية والفرق البعثية بالإضافة الى قوات المرتزقة الكردية " الجحوش " وتم تطبيق قول البعث التاريخي في العملية وهو " التصفية أو التجميع " .كانت الخطوة الأُولى هي التصفية وإعتقال ونقل المجموعات البشرية نحو الجنوب العراقي " سجون نقرة سلمان الواقعة في الصحراء الغربية حصراً "، في جو من السرية والكتمان بحيث لم يعرف مصير هؤلاء الأطفال والنساء والشيوخ الاّ بعد سقوط البعث ومقابره الجماعية . ولابد من الإشارة هنا الى العثور على دمى الأطفال في إحدى المقابر الجماعية قرب مدينة كركوك وكانت الجثث للنساء والأطفال فقط .أما الخطوة الثانية فكانت " التجميع " في مجمعات سكنية قسرية تم تأسيسها قبل وأثناء الأنفال ، وهناك الآن أكثر من عشرين مجمعاً في كردستان تعيش فيه النساء بلا رجال ، الرجال بلا نساء ولا أطفال ، والأطفال بلا آباء ولا أُمهات ، والنساء اللاتي أصبحن أرامل مع اكتشاف المقابر الجماعية . لقد عاشت تلك النسوة أكثر من أربعة عشر عاماً من الإنتظار على أمل عودة أطفالهن وأزواجهن يوما ما ، وتحملن ظروف قاسية بين ثقل الأيام وأسئلة الصغار الذين ولدوا في المجمعات دون أن يتعرفوا على وجوه الآباء والركض وراء الحصادات الآلية في كل صيف يأتي، بغية الحصول على باقة من السنابل وبالتالي على كسرة خبز تبث الحرارة والدفئ في الغرف المجردة من التدفئة والضوء . وكانت السنابل والصيف والتهرّب من أسئلة الصغار حول عودة الكبار تقدم شكلاً من أشكال مقاومة الحياة التي تجسدت صورها في إنتظار مطلق ، إنتظار لم يشبه الاّ الوباء والشيخوخة المبكرة والتلاشي في الحرّ البعثي ، الذي أنهاه الإنهيار البعثي ايضاً .نحن هنا أمام مأساة في أوجها تتشكل عناصرها من القوت اليومي لشخصياتها المقتلعة من محيطها التاريخي والإجتماعي والروحي ، مأسآة تعلن موت الجميع في دوائر متداخلة ،وفق سياسة التنحيت على الجسد أو ذاكرة البقاء كمرارة أبدية في الحياة . فالرجل الذي أعدم نفسه في اليوم الأول من العيد – لا أتذكر إن كان عيد رمضان أوالأضحى عام 1989– هرباً من حزن أولاده وبعد زوجته التي كانت معتقلة في نقرة سلمان ، كان يريد إبعاد جسده عن عملية التنحيت والبقاء كمهانة يومية أيضاً ، أما النساء اللواتي أخترقن العزلة بالبحث عن الصيف والسنابل و نشرات الأخبار اليومية و " العفو العام " ، فقد اكتسبن حلم عودة المبعدين أو المدفونين " المؤنفلين " وتطعيم الباقين والناجين والهاربين في مجمعات الأبد البعثية ، وكان عملهن بالتالي إلتفافاً حول الزمن والتاريخ والواقع والمدن – المجمعات – التي بُنيت كي تصبح معسكرات للأرامل مع مرور الأيام .للدخول الى تفاصيل هذه المأساة في مجمعات الأرامل واليتامى التي تشكلت في رحم القتل المجاني وموسم حصاد البشر ضمن إحتفال دموي أقامه " العوام " في كتمان ، لا نحتاج الى الكلمات بقدر إحتياجنا لصور تؤسلب المحنة كإطار تاريخي لحدث " الترّمل " و " التيتيم " دون شهادات وفاة عن حدث موت الأزواج والآباء . ففي وقت كانت تتحرك فيه صور " المُنتظِرين" في المجمعات، وفقاً لإيقاع البحث عن باقات من السنابل ،و بغية تقليل أيام الإنتظار وتليين جدران الغرف المتصلبة ، أصبح " اللاحدث " أو " اللاخبر " بالأحرى المعنى الوحيد والمطلق للحياة ، لكن الجميع تظاهر بإمتلاك أمل لعودة " الغابئين "المؤنفلين ،هكذا تم إختصار الزمن من خلال رواية الأشياء المتعلقة بما قبل الأنفال ( الأغاني ، الأعراس ، مواسم الحصاد ، المعارك التي كان يشعلها الأطفال وتتورط فيها النساء ، الهروب الجماعي من القرى خوفاً من أسراب طائرات الهيليكوبتر .. الخ ) . مرّ على هذا الإيقاع عقد ونيف دون حدث واحد في حياة تلك النسوة اللواتي طُلقن حسب رغبة أصحاب مزرعة الجثث وفصلن عن أزواجهن عبر الإفناء والقتل والسجن والدفن والتقبير . وفي هذه الفترة ذاتها بدأ المجتمع الكردي يعاني من ثقل المأساة التي ترفدت في ذاكرة الناس والحياة الإجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية . إذ ظهرت مدن أفقية – المجمعات القسرية – كأورام خبيثة في جميع مناطق كردستان ، وأصبحت بخشونتها وغلاظتها المعمارية جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية. تضم في أحشائها مجتمع معزول عن العالم والتاريخ . مجتمع قطعت أوصاله عبر فكر إستئصالي تمخض عن خيال وتراث سياسيين تجسدا في التجربة البعثية بكافة أشكالها العلنية والمخفية . علماً ان هذه المدن كانت نموذجاً لأسلوب العمارة الحديث في استراتيجيات الهندسة العسكرية والأمنية للتجميع . وإذا نظرنا لبناها الأساسية نرى أنها تخضع للمراقبة والسيطرة الكاملتين من حيث موقعها الجغرافي وبهذا استطاع البعث إبعاد الناس عن أسلوب عمارتهم العفوي والمنسجم مع طبيعة الوديان والجبال التي تضمن الأمن وسلامة الناس وفق ثقافة الموروث وغرائز الحياة . أما الخطوة الثانية بعد إختيار الموقع فكانت خريطة " المجمع " وكيفية تجسيد فكرة " التجميع " التي تلت التصفية كرؤية كليانية تتطلبها يوميات دولة البعث .إذ تم تشريع قانون هندسي خاص يضمن الأفكار التي بُنيت من أجلها المجمعات ، وتجسدت الرؤية وفق هذا القانون في أشكال بناء البيوت وإقامة الشوارع وتوزيع المياه والحصص التموينية الغذائية ومداخل ومخارج المجمع . إن المشكلة المستعصية التي تواجه الجميع هنا هي حجم المأسآة وقدرتها على إنتاج ذاتها على المستوى الإجتماعي والنفسي والثقافي ، وحسب الدراسات الميدانية الكردية فإن المجتمع المؤنفل هو مجتمع مجرّد من التنمية الإجتماعية والسكانية والتربوية، لا تصل فيه الحاجات الضرورية للإنسان ( الأكل ، الشرب ، السكن ، الجنس ، الراحة ) الى أدنى مستواها ، هذا بالإضافة الى تلك الذاكرة الأليمة التي تحملها أرامل الأنفال وأيتامها عن يوميات تنفيذ العملية وتتماتها في معسكرات القتل في توبزاوا ودبس وقورتو وغوبتبة وأخيراً في نقرة سلمان . تسقي هذه الذاكرة حياة المجتمع المؤنفل بمياه نموذج خاص من الإبادة الجماعية التي نفذها فكر خلاّق في استئصال الآخر .في دراسة ميدانية حول تأثير الأنفال على النساء يقول الكاتب الكردي " طه سليمان " : إذا كان عام 1988 عاماً لعمليات الأنفال على الكرد وهويته القومية من قبل البعث ، فإن الأعوام التي تليها بمثابة أنفالات مستمرة على حياة تلك النسوة اللاتي أصبحن في هوامش العملية وهن يتحملن مشاكل إجتماعية وإقتصادية ونفسية صعبة للغاية . يطرح الكاتب جانباً مهماً من الآثار التي تركتها الأنفال وهي أن هناك " الأنفال الهامش " أي المجتمع الناقص الذي يتكون من بقايا الموت ويعيش في مخيمات الأشباح . وسبق للكاتب نفسه أن كتب كتاباً عن المشكلة نفسها بعنوان ( في هامش الأنفال ) وهو عبارة عن تحقيقات صحفية حول حدث عام 1988 الذي أصبح القتل فيه مركزاً والمذلّة هامشاً ، وشكلاً من أشكال الترّمل الجماعي لشريحة إجتماعية واسعة أطلق البعث سراحها كي تتوضح الصورة التي رسمها للأنفال ، والاّ ماذا يعني إطلاق سراح إمرأة ووليدها الذي ولد في معسكرات التجميع وقتل زوجها أو الإفراج عن إمرأة أُخرى ولدت في إحدى معسكرات التجميع مع وليدها وقتل زوجها . تعطي هذه النماذج التي يذكرها الكاتب في تحقيقاته الميدانية فكرة واضحة عن رغبة البعث في دراسة نتائج العملية وتقييم أبعادها على ضوء الهامش الواسع الذي تركته أنفالاته التسع . ونذكر هنا بعض النسوة اللاتي يتحدثن للكاتب المحقق عن المجتمع الهامشي وبطلاته المغارقات بين المجمعات والبحث عن السنابل وبين سرد المآسي وقيامة التجميع في غوبتبة وقورتو وتوبزاوا ونقرة سلمان . فـ " شمسه محمد " مثلاً أُنفلت عائلتها المكونة من خمسة عشر فرداً ، لم ينج منها إلاّ إبنها الصغير وحفيد لها ، أما فتحية سيد رضا فلم تبق لها إلاّ صور الأيام الأُولى من الأنفال مع عائلتها التي راحت بالكامل . آمنة خورشيد ، عادت من نقرة سلمان بعد أن ماتت إثنتين من بناتها هناك من الجوع ، ولكنها لم تر زوجها إلاّ في اليوم الأول من تركهم القرية .الآن وفي المجمعات أو " معسكرات التجميع " هناك مجتمع يعيش على هامش سرد الحكايات عن تلك اللحظات التي ظهر فيها الموت بأشكال عديدة في كل تلك المجمعات المذكورة لا كشواهد حية على ما جرى ، بل كتجليات تاريخية خلاّقة في تطبيق تمارين القتل الخيالية ورسم نموذج الدولة والسياسة على أساسها. ويمكننا القول أنه مجتمع سردي جديد يعتمد الحزن في إظهار عناصره ، ويتكلم بلغة الصمت والدموع في حضور البهجة والفرح ، إنه مجتمع أقتضته صورة الغابة المقلمة التي كان يبتغيها الفكر البعثي . في الوقت الذي تخبرنا صور المقابر الجماعية عن موت ذوينا وتسدل ستارة الإنتظار الجميل الذي كنا نعيشه ، تتجذر ظاهرة " الترّمل " التي أعلنها سقوط البعث لآلاف من الكرديات ، وتتأصل مظاهر التراجيديا في دوائر أُخرى تختلف عن سابقاتها التي تجسدت في مونولوج طويل في سرد إنشطار الذات بين باقات من الإنتظار وأيام من جمع السنابل وسنين كبرت معها أسئلة المؤنفلين على أرضهم .تبقى مشكلة المجموعات التي نجت من الأنفال وبشكل خاص النساء والأطفال كتراث متجدد لخيالات السياسة القوموية البعثية في المنطقة ولا تتوقف عن إدامة الحزن التاريخي وإقامة جسر بينها وبين جيل لم يتعرّف على هويتها إلاّ من خلال الأنفال والطروحات ( الإفنا – عرقية ) التي شرّدت الأسماء عن أمكنتها عبر سياسة الترّمل والتيتيم والتقبير في إحتفالات دفن

ليست هناك تعليقات: