مأساة مدينة حلبجة على أثر الهجوم بالأسلحة الكيميائية عليها, كما يرويها أحد المجاهدين الذين شاركوا في المعركة.
الوثيقة رقم: 193559, 28/12/1366 (18/3/1988) ارشيف مركز دراسات و تحقيقات الحرب.
"يعتبر قيام الطائرات العراقية بقصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيمائية من أبرز الأحداث الأليمة التي جرت خلال الحرب الإيرانية العراقية. وفقاً للإحصاءات الرسمية, سقط خلال هذا العدوان أكثر من خمسة ألاف مدنياً معظمهم من الأطفال و النساء. تحكي هذه الوثيقة ذكريات أحد المجاهدين الذين كانوا ضمن مقر قوات القدس, و الذي كان حاضراً آنذاك و شاهد العدوان و ما جرى في المدينة, و ها نحن هنا نقدمها إليكم من أجل أن يتعرف القارئ العزيز على ما إقترفته القوات العراقية خلال هذا العدوان الآثم".
مرة أخرى عدت إلى مدينة حلبجة سالكاً الطريق الترابية الضيقة التي تؤدي الى المدينة, و بسرعة عملت على الوصول الى المكان الذي كان قد تعرض للقصف الجوي منذ بضع ساعات.
في البداية و بعد سيطرتنا على المدينة, كانت الأمور تسير بشكل طبيعي, كان الناس داخل المدينة يسارعون نحو المجاهدين و يقدمون المساعدة اللازمة لنا. حتى أنهم كانوا يدلونا على الجنود العراقيين الذين كانوا قد إختبأوا داخل البيوت لكي نقوم بأسرهم. لم يكن أحد يتوقع أن تصير الأمور إلى ما آلت إليه.
أدت تقارير الفارين من المدينة و التي نقلوها الى الضباط العراقيين و بعد إطلاع صدام شخصياً على الأوضاع في المدينة و كيفية تعاطي أهالي المدينة مع المجاهدين كلها عوامل ساهمت بشكل كبير في أن يتم الهجوم الوحشي على هذه المدينة و قيام العدو بهذا الهجوم غير إلانساني ضد الشعب الأعزل في مدينة حلبجة.
في البداية تم قصف المدينة بالصواريخ الحربية و بعدها بدأت تنهال على المدينة القنابل الكيمائية. عندما وصلت الى تجمع للناس لاحظت أن أكثرهم من النساء و الأطفال, حيث كان هناك رجل بين كل عشرة أشخاص, و كان لا يدري ماذا يفعل. شاهدت في مركز البلدية في المنطقة عدداً من الشهداء, و من شدة خوفي من التعرض للإصابة بالأسلحة الكيماوية عملت على الوصول بسرعة الى حيث كان الناس مجتمعين. عندما رأوني هرعوا نحوي. كان عددهم حوالي المئة, و لم أكن قادراً على أن أحملهم جميعاً, فلقد كانت السيارة التي أقودها عبارة عن باص صغير لا يتسع لهذا العدد, عندها قررت أن أنقل حوالي عشرين شخصاً من النساء و الأطفال الذين تعرضوا للإصابة بالأسلحة الكيماوية. حيث ركبوا في السيارة التي كانت لا تتسع لنصف هذا العدد من الركاب.
إنطلقت بسرعة, و عملت للخروج من المكان الذي قد تلوث بالغازات الكيماوية بشكل كبير. كنا نعبر من بين البيوت و خلال النار و الغبار الذي كان يتصاعد من البيوت المحترقة. عندها تجدد القصف و عادت القنابل و القذائف الكيماوية لتتساقط على المدينة. حاولت تغيير مسيري, و سلكت طريقاَ لا أعرفه الى ان وصلت في النهاية إلى الطريق الترابية التي أعرفها.
كنت أشاهد خلفي و من خلال المرآة, وجوه الأطفال و النساء الخائفة و التي سيطر عليها الرعب و القلق حيث كان لا أحد يدري ما يفعل و لا أين علق الرجال في القصف الذي إنهمر على المدينة, كانت الأطفال تذكرني بالأطفال في مدينتي عندما كانت تتعرض للقصف.
في هذا الوقت, تجدد القصف على المدينة. و عندما لم ألاحظ أي أثر لإنفجار فهمت أن هذه القنابل هي كيماوية. على هذا, عملت على الإبتعاد عن المنطقة. كان هناك عدد من المقاومين المنتشرين في أرجاء المدينة و كانوا يعملون على إنقاذ الناس و مساعدتهم دون أن يرهبهم القصف المنهمر على المدينة. كانوا يخجلون من وضع القناع أمام الناس المدنيين.
كان يجلس إلى جنبي ثلاثة أشخاص يبكون, فقد فقدوا بصرهم و باتوا عاجزين عن رؤية ما حولهم. كنت أجتاز المطبات التي كانت على الطريق بسرعة فائقة, حيث کانت النساء و الأطفال الذين كانوا معي كانوا منزعجين من شدة السرعة التي كنت أسير بها. وعندما وصلت الى نهر صغير قريب من المدينة نزل الجميع ليغسلوا وجوههم و عيونهم لعلهم بذلك يتمكنون من تخفيف الضرر الذي لحق بهم جراء تعرضهم للأسلحة الكيماوية. بعدها عاودت المسير و إبتعدت عن المدينة حيث لم أعد أعلم ماذا يجري على الناس هناك. كنت أنزعج بشكل كبير كلما نظرت في المرآة لأطمئن على من كان معي. لقد سقط هؤلاء ضحية الظلم و الفساد و الشياطين الخبيثة في هذا العصر.
شعرت حينها أنني أعرف هؤلاء الناس من قبل. كانت دموعي تنهمر على خدي من غير وعي كلما كان يقع نظري على الأطفال الذين جلسوا بقربي, حيث کانت وجوههم قد إنتفخت. عندما وصلنا الى أول طلعة, توقفت السيارة عن المسير, حاولت عدة مرات أن أضغط على دعسة الوقود, كانت السيارة تسير ببطء لتعود و تقف من جديد. أتأمل الوجوه القلقة للركاب و أعاود المحاولة مجدداً. كلما كان يعلوا صوت إنفجار كان خوفنا يزداد و يتجدد. أتمتم بالدعاء. كان قلقي على من معي كبيراً, وددت أن أوصلهم الى أول مكان يمكن أن يكون آمناً بالنسبة لهم كي أعود و أنقذ الباقين.
سمعت صوتاً أعرفه, دققت أكثر, و بدأ قلبي يرتجف حتى كاد يقفز من مكانه, كان الصوت يأتي من الركاب الذين كانوا معي, كانو خلفي يرددون شعار "لا إله إلا الله". كانت النسوة في السيارة يتحملن كل الآلام على الرغم من تعرضهن للإصابة بالأسلحة الكيماوية و على رغم أنهن فقدن بصرهن و بتن لا يقدرن على التمتع بجمال الطبيعة من حولنا. تذكرت عندها "شعب أبي طاب", و الأخوات اللواتي إستشهدن في حادثة "17 شهريور" (7 أيلول من العام 1978) و الشهداء الذين سقطوا ظلماً في "شوارع مكة", كلها صور تداعت أمام ناظري, أحسست أنني أحلم, ولكن لا, إن ما أراه هو حقيقة.
عندما سمعت هذا الشعار الجميل إزداد عزمي و صممت أكثر على متابعة المسير, تحركت السيارة ثانية. كان يصرخون "لا إله إلا الله" فتفوح رائحة الدم و عطر كربلاء. أردت أن أصرخ, و أردت أن أقف على قمة جبل "بالامبو" لأصرخ و أقول للناس ما صنعه هذا الشعب و ما هي البطولة و الملاحم التي يسطرونها. أشعر أنني عاجز عن النظر إلي هذا العظمة و هذه المعنويات العالية, حاولت السيطرة على نفسي, خنقتني العبرة و الغصة, و إنطلقت شفتاي لتردد ما يرددون.
كانت هذه الأفكار تعبر ذهني كالبرق, لقد كانت الحدود مغلقة و هؤلاء الناس لم يكونوا قد شاهدوا الإمام الخميني, لم تمض بضع ساعات على وصولنا إليهم, إلا أنهم يطلقون ذات الشعار الذي نطلقه, النساء هنا ترتدي الحجاب كما يرتديه أهلنا, و ها هم يرفعون قبضاتهم يطلقون ذات الشعار, ترى أين هي المصيبة التي حلت بهم.
أشعر أنني صغير أمامهم! من بين كل المدن الإيرانية التي تعرضت للحرب, كانت مدينة "بستان" ذات مكانة خاصة لدي, و كان أشد ما يؤلمني مظلومية الأسرى الذين إستشهدوا بعد أسرهم.
الآن أشعر أن حلبجة هناك, تشارك "بستان" في المصيبة, و تجمع كلا المدينتين روح مشتركة و شعار مشترك, ترى من يعلم ما الذي يجري؟
وصلت الى جبل "بالامبو" المشرف على مدينة حلبجة, و هناك انزلت ضيوف الجمهورية الإسلامية لأسلمهم الى الأخوة في مركز الطوارئ. تركت قلبي عندهم و عدت مسرعاً الى المدينة. هذه المرة صرت أعرف الطريق جيداً. مررت قرب إحدى الأبنية التي كانت تغطي إحدى جدرانها صورة كبيرة لصدام, هناك إستوقفني رجل و طلب مني المساعدة. كانت المنطقة هادئة تماماً, ترددت بمساعدته, و في النهاية قررت العودة الى حيث تجمع عدد من الناس. عبرت بسرعة من أمام أنقاض الأبنية. كانت الفوضى تعم السوق الرئيسي في المدينة, فقد تناثرت أبواب المحال التجارية و تبعثرت في كل مكان و ذلك على أثر الصواريخ الجوية التي أطلقتها طائرات البعثيين.
سعيت جاهداً لكي أتجنب أن تصاب دواليب سيارتي بضرر. عنما وصلت الى أخر المدينة, وقفت على مفترق ثلاث طرق حيث تجمع الناس هناك, ترجلت من السيارة لأشاهد أفجع منظر في حياتي.
"لقد إستشهد الجميع, و لم يبق أحد على قيد الحياة", شاهدت بالقرب مني رجل و أطفاله الخمسة في حالة الإحتضار, دنوت منهم ونظرت الى وجوه الأطفال, عندها تقدم أحد المجاهدين ليلتقط زجاجة اللبن من الأرض و يضعها الى جانب الطفل الشهيد. وفقت عندها و نظرت إلى أخر الشارع, و ما شعرت إلا و أنا أتمتم من غير وعي عبارة "باز اين تشه شورش در خلق عالم است" (ما هذه الحركة في خلق هذا العالم)
يا إلهي لقد إستشهد الجميع, لقد كانوا معنا يطلقون ذات الشعار الذي نطلقه. منذ قليل كانوا يضمون أطفالهم الى صدورهم. لقد شاهدت إمرأة تضم رضيعها إلى صدرها و قد إستشهد كلاهما. كان حجاب المرأة و براءة الطفل أتم و أكمل من أي شيء آخر.
كانت قدماي ترتجف كلما مررت بين الشهداء الذين كانت غالبيتهم من النساء و الأطفال. وبينما أنا كذلك إذ وقعت عيني على علم أحمر كتب عليه "ثار الله", فتذكرت ما جرى في كربلاء و إرتسمت في ذهني ذكرى الحسين عليه السلام و شهادته. لقد قام هؤلاء بقتل ضيوف الجمهورية الإسلامية بكل قسوة, و هذا ما ذكرني بقول الرسول الأكرم (ص) حيث قال: "ولد الإسلام غريباً, ونشأ غريباً و سيعود غريباً". احدق في وجوه الأطفال الجميلة و الطاهرة, كأنهم نيام. أرى بعضهم جميلاً كأنهم لعبة. إن وجه الميت مخيف بالنسبة إلينا لأننا لم نعتاد على الموت و لأنه غريب علينا. إلا أن هؤلاء الذين كانوا متفاوتين, فلقد لبوا دعوة الحق تعالى و إستجابوا الى نداء عزيزفاطمة الزهراء (ع) "هل من ناصر ينصرني" وما كان اروع لقائهم بالمحبوب.
إن كتاباً كاملاً لا يكفي لكي أصف كل واحد من هؤلاء و كيف كانت شهادته. تجولت بين البيوت و أنا أبكي شهادة هؤلاء. كلما أصل الى بيت و أدخله, كنت أرى أن الجميع قد استشهدوا. كانت تسودّ عيناي و تتبدل شهادة الشعب المسلم في حلبجة الى منظراَ لا يمكن تحمله, أتصور الثورة الإسلامية في العراق و المسؤولية الكبيرة التي يجب أن يتحملها المسؤولين لهذا الشعب, و أقول في نفسي: "أين البشير لكي يرى مصيبة هذا الشعب العظيم"
منطقة عمليات حلبجة
28/12/1366 (19/3/1988)
س-غ. قوات القدوس.
المصدر: فصلية نكين إيران, العدد 2, خريف 1381 (2002). ص 148
الوثيقة رقم: 193559, 28/12/1366 (18/3/1988) ارشيف مركز دراسات و تحقيقات الحرب.
"يعتبر قيام الطائرات العراقية بقصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيمائية من أبرز الأحداث الأليمة التي جرت خلال الحرب الإيرانية العراقية. وفقاً للإحصاءات الرسمية, سقط خلال هذا العدوان أكثر من خمسة ألاف مدنياً معظمهم من الأطفال و النساء. تحكي هذه الوثيقة ذكريات أحد المجاهدين الذين كانوا ضمن مقر قوات القدس, و الذي كان حاضراً آنذاك و شاهد العدوان و ما جرى في المدينة, و ها نحن هنا نقدمها إليكم من أجل أن يتعرف القارئ العزيز على ما إقترفته القوات العراقية خلال هذا العدوان الآثم".
مرة أخرى عدت إلى مدينة حلبجة سالكاً الطريق الترابية الضيقة التي تؤدي الى المدينة, و بسرعة عملت على الوصول الى المكان الذي كان قد تعرض للقصف الجوي منذ بضع ساعات.
في البداية و بعد سيطرتنا على المدينة, كانت الأمور تسير بشكل طبيعي, كان الناس داخل المدينة يسارعون نحو المجاهدين و يقدمون المساعدة اللازمة لنا. حتى أنهم كانوا يدلونا على الجنود العراقيين الذين كانوا قد إختبأوا داخل البيوت لكي نقوم بأسرهم. لم يكن أحد يتوقع أن تصير الأمور إلى ما آلت إليه.
أدت تقارير الفارين من المدينة و التي نقلوها الى الضباط العراقيين و بعد إطلاع صدام شخصياً على الأوضاع في المدينة و كيفية تعاطي أهالي المدينة مع المجاهدين كلها عوامل ساهمت بشكل كبير في أن يتم الهجوم الوحشي على هذه المدينة و قيام العدو بهذا الهجوم غير إلانساني ضد الشعب الأعزل في مدينة حلبجة.
في البداية تم قصف المدينة بالصواريخ الحربية و بعدها بدأت تنهال على المدينة القنابل الكيمائية. عندما وصلت الى تجمع للناس لاحظت أن أكثرهم من النساء و الأطفال, حيث كان هناك رجل بين كل عشرة أشخاص, و كان لا يدري ماذا يفعل. شاهدت في مركز البلدية في المنطقة عدداً من الشهداء, و من شدة خوفي من التعرض للإصابة بالأسلحة الكيماوية عملت على الوصول بسرعة الى حيث كان الناس مجتمعين. عندما رأوني هرعوا نحوي. كان عددهم حوالي المئة, و لم أكن قادراً على أن أحملهم جميعاً, فلقد كانت السيارة التي أقودها عبارة عن باص صغير لا يتسع لهذا العدد, عندها قررت أن أنقل حوالي عشرين شخصاً من النساء و الأطفال الذين تعرضوا للإصابة بالأسلحة الكيماوية. حيث ركبوا في السيارة التي كانت لا تتسع لنصف هذا العدد من الركاب.
إنطلقت بسرعة, و عملت للخروج من المكان الذي قد تلوث بالغازات الكيماوية بشكل كبير. كنا نعبر من بين البيوت و خلال النار و الغبار الذي كان يتصاعد من البيوت المحترقة. عندها تجدد القصف و عادت القنابل و القذائف الكيماوية لتتساقط على المدينة. حاولت تغيير مسيري, و سلكت طريقاَ لا أعرفه الى ان وصلت في النهاية إلى الطريق الترابية التي أعرفها.
كنت أشاهد خلفي و من خلال المرآة, وجوه الأطفال و النساء الخائفة و التي سيطر عليها الرعب و القلق حيث كان لا أحد يدري ما يفعل و لا أين علق الرجال في القصف الذي إنهمر على المدينة, كانت الأطفال تذكرني بالأطفال في مدينتي عندما كانت تتعرض للقصف.
في هذا الوقت, تجدد القصف على المدينة. و عندما لم ألاحظ أي أثر لإنفجار فهمت أن هذه القنابل هي كيماوية. على هذا, عملت على الإبتعاد عن المنطقة. كان هناك عدد من المقاومين المنتشرين في أرجاء المدينة و كانوا يعملون على إنقاذ الناس و مساعدتهم دون أن يرهبهم القصف المنهمر على المدينة. كانوا يخجلون من وضع القناع أمام الناس المدنيين.
كان يجلس إلى جنبي ثلاثة أشخاص يبكون, فقد فقدوا بصرهم و باتوا عاجزين عن رؤية ما حولهم. كنت أجتاز المطبات التي كانت على الطريق بسرعة فائقة, حيث کانت النساء و الأطفال الذين كانوا معي كانوا منزعجين من شدة السرعة التي كنت أسير بها. وعندما وصلت الى نهر صغير قريب من المدينة نزل الجميع ليغسلوا وجوههم و عيونهم لعلهم بذلك يتمكنون من تخفيف الضرر الذي لحق بهم جراء تعرضهم للأسلحة الكيماوية. بعدها عاودت المسير و إبتعدت عن المدينة حيث لم أعد أعلم ماذا يجري على الناس هناك. كنت أنزعج بشكل كبير كلما نظرت في المرآة لأطمئن على من كان معي. لقد سقط هؤلاء ضحية الظلم و الفساد و الشياطين الخبيثة في هذا العصر.
شعرت حينها أنني أعرف هؤلاء الناس من قبل. كانت دموعي تنهمر على خدي من غير وعي كلما كان يقع نظري على الأطفال الذين جلسوا بقربي, حيث کانت وجوههم قد إنتفخت. عندما وصلنا الى أول طلعة, توقفت السيارة عن المسير, حاولت عدة مرات أن أضغط على دعسة الوقود, كانت السيارة تسير ببطء لتعود و تقف من جديد. أتأمل الوجوه القلقة للركاب و أعاود المحاولة مجدداً. كلما كان يعلوا صوت إنفجار كان خوفنا يزداد و يتجدد. أتمتم بالدعاء. كان قلقي على من معي كبيراً, وددت أن أوصلهم الى أول مكان يمكن أن يكون آمناً بالنسبة لهم كي أعود و أنقذ الباقين.
سمعت صوتاً أعرفه, دققت أكثر, و بدأ قلبي يرتجف حتى كاد يقفز من مكانه, كان الصوت يأتي من الركاب الذين كانوا معي, كانو خلفي يرددون شعار "لا إله إلا الله". كانت النسوة في السيارة يتحملن كل الآلام على الرغم من تعرضهن للإصابة بالأسلحة الكيماوية و على رغم أنهن فقدن بصرهن و بتن لا يقدرن على التمتع بجمال الطبيعة من حولنا. تذكرت عندها "شعب أبي طاب", و الأخوات اللواتي إستشهدن في حادثة "17 شهريور" (7 أيلول من العام 1978) و الشهداء الذين سقطوا ظلماً في "شوارع مكة", كلها صور تداعت أمام ناظري, أحسست أنني أحلم, ولكن لا, إن ما أراه هو حقيقة.
عندما سمعت هذا الشعار الجميل إزداد عزمي و صممت أكثر على متابعة المسير, تحركت السيارة ثانية. كان يصرخون "لا إله إلا الله" فتفوح رائحة الدم و عطر كربلاء. أردت أن أصرخ, و أردت أن أقف على قمة جبل "بالامبو" لأصرخ و أقول للناس ما صنعه هذا الشعب و ما هي البطولة و الملاحم التي يسطرونها. أشعر أنني عاجز عن النظر إلي هذا العظمة و هذه المعنويات العالية, حاولت السيطرة على نفسي, خنقتني العبرة و الغصة, و إنطلقت شفتاي لتردد ما يرددون.
كانت هذه الأفكار تعبر ذهني كالبرق, لقد كانت الحدود مغلقة و هؤلاء الناس لم يكونوا قد شاهدوا الإمام الخميني, لم تمض بضع ساعات على وصولنا إليهم, إلا أنهم يطلقون ذات الشعار الذي نطلقه, النساء هنا ترتدي الحجاب كما يرتديه أهلنا, و ها هم يرفعون قبضاتهم يطلقون ذات الشعار, ترى أين هي المصيبة التي حلت بهم.
أشعر أنني صغير أمامهم! من بين كل المدن الإيرانية التي تعرضت للحرب, كانت مدينة "بستان" ذات مكانة خاصة لدي, و كان أشد ما يؤلمني مظلومية الأسرى الذين إستشهدوا بعد أسرهم.
الآن أشعر أن حلبجة هناك, تشارك "بستان" في المصيبة, و تجمع كلا المدينتين روح مشتركة و شعار مشترك, ترى من يعلم ما الذي يجري؟
وصلت الى جبل "بالامبو" المشرف على مدينة حلبجة, و هناك انزلت ضيوف الجمهورية الإسلامية لأسلمهم الى الأخوة في مركز الطوارئ. تركت قلبي عندهم و عدت مسرعاً الى المدينة. هذه المرة صرت أعرف الطريق جيداً. مررت قرب إحدى الأبنية التي كانت تغطي إحدى جدرانها صورة كبيرة لصدام, هناك إستوقفني رجل و طلب مني المساعدة. كانت المنطقة هادئة تماماً, ترددت بمساعدته, و في النهاية قررت العودة الى حيث تجمع عدد من الناس. عبرت بسرعة من أمام أنقاض الأبنية. كانت الفوضى تعم السوق الرئيسي في المدينة, فقد تناثرت أبواب المحال التجارية و تبعثرت في كل مكان و ذلك على أثر الصواريخ الجوية التي أطلقتها طائرات البعثيين.
سعيت جاهداً لكي أتجنب أن تصاب دواليب سيارتي بضرر. عنما وصلت الى أخر المدينة, وقفت على مفترق ثلاث طرق حيث تجمع الناس هناك, ترجلت من السيارة لأشاهد أفجع منظر في حياتي.
"لقد إستشهد الجميع, و لم يبق أحد على قيد الحياة", شاهدت بالقرب مني رجل و أطفاله الخمسة في حالة الإحتضار, دنوت منهم ونظرت الى وجوه الأطفال, عندها تقدم أحد المجاهدين ليلتقط زجاجة اللبن من الأرض و يضعها الى جانب الطفل الشهيد. وفقت عندها و نظرت إلى أخر الشارع, و ما شعرت إلا و أنا أتمتم من غير وعي عبارة "باز اين تشه شورش در خلق عالم است" (ما هذه الحركة في خلق هذا العالم)
يا إلهي لقد إستشهد الجميع, لقد كانوا معنا يطلقون ذات الشعار الذي نطلقه. منذ قليل كانوا يضمون أطفالهم الى صدورهم. لقد شاهدت إمرأة تضم رضيعها إلى صدرها و قد إستشهد كلاهما. كان حجاب المرأة و براءة الطفل أتم و أكمل من أي شيء آخر.
كانت قدماي ترتجف كلما مررت بين الشهداء الذين كانت غالبيتهم من النساء و الأطفال. وبينما أنا كذلك إذ وقعت عيني على علم أحمر كتب عليه "ثار الله", فتذكرت ما جرى في كربلاء و إرتسمت في ذهني ذكرى الحسين عليه السلام و شهادته. لقد قام هؤلاء بقتل ضيوف الجمهورية الإسلامية بكل قسوة, و هذا ما ذكرني بقول الرسول الأكرم (ص) حيث قال: "ولد الإسلام غريباً, ونشأ غريباً و سيعود غريباً". احدق في وجوه الأطفال الجميلة و الطاهرة, كأنهم نيام. أرى بعضهم جميلاً كأنهم لعبة. إن وجه الميت مخيف بالنسبة إلينا لأننا لم نعتاد على الموت و لأنه غريب علينا. إلا أن هؤلاء الذين كانوا متفاوتين, فلقد لبوا دعوة الحق تعالى و إستجابوا الى نداء عزيزفاطمة الزهراء (ع) "هل من ناصر ينصرني" وما كان اروع لقائهم بالمحبوب.
إن كتاباً كاملاً لا يكفي لكي أصف كل واحد من هؤلاء و كيف كانت شهادته. تجولت بين البيوت و أنا أبكي شهادة هؤلاء. كلما أصل الى بيت و أدخله, كنت أرى أن الجميع قد استشهدوا. كانت تسودّ عيناي و تتبدل شهادة الشعب المسلم في حلبجة الى منظراَ لا يمكن تحمله, أتصور الثورة الإسلامية في العراق و المسؤولية الكبيرة التي يجب أن يتحملها المسؤولين لهذا الشعب, و أقول في نفسي: "أين البشير لكي يرى مصيبة هذا الشعب العظيم"
منطقة عمليات حلبجة
28/12/1366 (19/3/1988)
س-غ. قوات القدوس.
المصدر: فصلية نكين إيران, العدد 2, خريف 1381 (2002). ص 148
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق