ذكريات احد الضباط الاسرى العراقيين ( آمر سرية الإسناد )
كان من الواجب علينا الحضور في الاجتماع الذى كان يعقد كل ليلة في مقر اللواء، آمر اللواء كان ضابطا ً تكريتيا ً ،غالباً كانوا يوضحون لنا التغييرات التي تطرأ على جبهات القتال والواجبات المتعلقه بمقرنا ، في تلك الليلة ( ومن غير المألوف) تعبنا من الانتظار، لكن الضابط لم يحضر، قررنا اخيرا ترك قاعة الاجتماع ، الا انه جاء على حين غفلة وقال لنا : عليكم ان تذهبوا و تعدوا وحداتكم حالا ، سوف نتحرك بعد 9 ساعات تماماً! وفي الوقت الذي هممنا مع بقية القادة للخروج من الباب ، نادانا باعلى صوته وقال : انك مسؤول سرية المدفعية منذ هذه اللحظة.
الساعة الخامسة و النصف من صباح يوم 12/8/1988م (23/11/1366ه.ش)، وفي ذلك الحين لم نكن نعلم أبدا ولو قيد أنمله كيف كانت الاوضاع ، اتجهوا بنا نحو المناطق الشماليه من الجبهة ، وكان كل واحد منا جالسا في مكانه وعلامات الاضطراب والقلق تلوح في وجهه ولم نكن نعلم الى اين يتجهون بنا ، او اية مهمة سوف توكل علینا ، بعد حين من الزمن و كان قد حان المساء وصلنا بالقرب من مدينة «خانقين» وقد امرونا بانزال امتعتعنا للاستراحة هناك، وقد تصورنا بان تلك المنطقه هي المكان الذي كان مقرراً انجاز مهمتنا فيها وان هذا التصور الخاطئ قد خفف قليلا من قلقنا ، لان تلك المنطقه كانت هادئة نسبيا ، إلا إن هذا الوضع لم يدم طويلا، فقبل ان تلوح اشعة الشمس الذهبية ، تحركت القافلة مرة اخرِى ، ولم نكن نعلم الى اين يأخذوننا ،بعد مضي عدة ساعات، اتجهنا نحو طريق لايوجد في سهوله غير الثعبان وفي جباله غير الصمت، باتجاه(مدينة السليمانية)، وقعنا جميعا في حيرة من ذلك لان في تلك النواحي لم تكن سوى اشتباكات متفرقة بين الجيش والقوى الكردية المعارضة . لماذا ارسلونا الى تلك المنطقه ؟
ليلة 14/3/1988م.(25/11/1366ه.ش) وصلنا الى منطقة بإسم «عربد» التي لا تبعد سوى مسافة قليلة عن الخط الامامي ، انزلنا متاعنا و على حين غفلة امطرتنا المدفعية الثقيلة بوابل من القذائف ومدافع الهاون ترافقها اصواتها المرعبة و كان هذا استقبالاً حاراً لنا ، لقد با غتونا بذلك ، قضينا تلك الليلة بالذعر والخوف تحت المدفعية الثقيلة للقوات الايرانية عند طلوع الفجر وضعنا امتعتنا في الشاحنات و بدأنا السفر .
لكننا كنا نعلم ان المقصد كان مدينة "حلبجه" هذه المرة ، وطيلة مدة السفر كان الايرانيون يقصفوننا ، اذ كانت تسمع اصوات الانفجارات المرعبة طوال الطريق ، بعد عدة ساعات وصلنا الى المكان الذي قرروا استقرارنا فيه وقالوا بان ماموريتنا هي المحافظة على البحيرات المحيطة بمدينة«حلبجة» ، بعد وصولنا بلحظة واحدة امطرتنا المدفعية الايرانية بقذائفها الكثيفة ، وقد اتضح لنا بانهم لا يبعدون عنا سوى عدة اقدام ،بعد مضي ساعة من الزمن ، اعطونا امرا بتغيير مكاننا و بسرعة ، لم يمضي الا بعض الوقت اذ اصبحنا داخل المدينة، يبدو ان القوات الايرانية كانت تتجه بسرعة نحو المدينة ، وقامت قواتنا بهجوم مضاد الا انه لم نخرج سوى بالخسائر الفادحة في الاليات والمعدات .
في صباح اليوم التالي على الرغم من توقف القصف من قبل القوات الايرانية الا اننا كنا نتخوف من هجومهم من جديد لذا فقد بدأنا هجوماً معاكساً بتجهيزات أكثر، الاانه قد باء بالفشل . في اوج الاشتباكات سمعنا خبراً فورياً، بأن القوات الايرانية قد نجحت من قطع الطريق الرئيسي للمنطقة الذي یربط المدينة مع المناطق الاخرى. و على هذه الحال أخذوا كافة المساعدات و المؤونات التي ارسلت الينا بعد ذلك طلب مني آمر اللواء حماية كافة افراد الفوج باطلاق القذائف المدفعية فقد اصبحت في حيرة كيف اخرج من هذا المأزق و ذلك لانه لم تكن لدي معلومات لا عن هذه المنطقة و لا عن مكان استقرار قواتنا، و لا عن مدى بعد القوات الايرانية عنا اذ إن تلك المنطقة كانت منطقة سكنية و مجهولة بالنسبة لي و لم أكن امتلك ولو خارطة بسيطة عنها تعطيني بعض المساعدة و لذلك فإن اطلاق النار كان عملاً غير مقبول و من جانب آخر فقد كنت خائفاً من اتهامي بالخوف و الخيانة اذا تأخرت في اطلاق النار و على هذا الاساس فان خوفي و اضطرابي اضطرني الى اطلاق النار عشوائياً لكي تصل اصواتها الى اسماعهم و لم اعير اهتماماً قط حماية افراد الفوج بقدر الهروب من اتهامهم لي بالخيانة ، على حين غفلة احد الجنود اصيب بـ
I.P.G. بحالة نفسيه من شدة الخوف فوضع يده على زمام سلاح من نوع 9 و اطلق النارعشوائيا ، اصيبت رجلي اليمنى على اثر ذلك بحروق شديدة من جانب اخر بدأ الايرانيون بقصفنا ،وعلى الرغم من الآلام الشديدة التي كنت اشعر بها الاانني تمكنت من الهروب الى داخل سيارة كانت واقفة على جانب الطريق واخيرا انقضت تلك الليلة بالرعب والخوف وطلع علينا صباح اليوم (15\3\1988م) (24\12\1366ه ش) وقد تحسن حالي قليلا، وقد فهمت بأن مقر الإيرانيين قريبا جدا منّا ، وبعد عدة ساعات نظرت في جهاز منظار المراقبة فشاهدت أن الإيرانيين قد أتجهوا بإتجاه مدينة حلبچة ، وفجأة جاء آمر اللواء وقال لنا بلحن بائس: يجب أن تسحبوا المدافع الی داخل المدينة !!
فإذا أضطررنا نستطيع ان ننسحب الى الخلف بسهولة ، فأن الإيرانيين يتقدمون بسرعة . وقد أنتقلنا سريعاً الی داخل المدينة ، وبهذا العمل يمكننا تأخير المواجهة مع الإيرانيين ولو مدة ساعة . إن أفراد الفوج كانوا في حالة شديدة من القلق والأضطراب بسبب إنتظار أمر الأنسحاب الی الوراء ، حتی أن بعض الأفراد قبل صدور الأوامر لاذوا بالفرار ،وبمجرد صدورالأوامر بالأنسحاب فإن الكثير من الأفراد لاذوا بالفرار سواءا راكبين لعجلاتهم ام مهرولين وراءها لانهم لم يتمكنوا من الالتحاق بها. وكان هنالك طريق واحد تسلكه السيارات وهو علی مقربة من الإيرانيين ، وبالرغم من ذلك فقد ملئ الشارع بأفرادنا المذعورين.
وقد كان الأيرانيون يتوقعون ذلك ويراقبون الوضع بدقة ، وقد تهيئوا لنا وصوبوا مدافعهم نحو الطريق ، وعند وصولنا الی النقطة المناسبة في الطريق ، فجأة أمطرونا بوابل من نيران قذائف مدفعيتهم وقذائف الهاون ، وبذلك قطعوا الطريق علينا ولم نتمكن من التقدم ولو لمتر واحد . ومع مرور الوقت تتزايد نيران قذائفهم ويزداد عدد القتلی والجرحی ، ومن تمكن من الفرار لم يعبأ بأصحابه من الجرحی وتركوهم للموت، وبعد ساعة من الهرولة والمشي المضنك وصلنا قرية « عنب ». وكانت القرية تبدو هادئه ، الا أنه لم يخفی ملجئنا عن أنظار القوات الايرانيه ، فسرعان ما امطرتنا بوابل من القذائف فأضطرتنا الی ترك القرية ، ففررنا مرة أخری من القرية الی الغابات القريبة منها ، مذهولين لا ندري الى اي طرف نتجه ، ثم واصلنا الفرار حتى وصلنا الى طريق ضيقة كتب في اولها لافتة تشير الى " مدينة سيروان" فسرنا باتجاه تلك المدينة. واخيرا وصلنا الی سيروان واذا بها خالية من اي كائن حي ، اصبحنا عدة مجاميع كل مجموعة دخلت احدى تلك البيوت الخالية ، كذلك انا وآمر اللواء وعددا من محافظيه وبعض الضباط الاخرين دخلنا احدى تلك البيوت ، ومن شدة الجوع اكلنا ما كان موجودا فيها ، وأتخذ كل واحد منا زاوية من البيت واستغرقنا في النوم .
لم يبق شيئا حتى مطلع الفجر ، فأستيقظنا من نومنا القصير على صوت آمر اللواء عندما كان يحاول الاتصال بامر الفرقة بواسطة اللاسلكي ، فعلمنا بخبر أسوء هو سقوط الفرقة كلها في حلقة حصار الإيرانيين ، فأصبنا باليأس لسماع هذا الخبر ، قد طلبوا منّا يد المساعدة لنجاتهم !! ، فوعدهم آمر اللواء بذلك وكأنه لا يعرف أوضاعنا المزرية فأجابهم قائلا: لاتتحيروا سوف نأتي سريعا لكسر الحصار بمجموعة من المدرعات !!
عندما سمع آمر الفرقة ذلك فإنه أخذ يردد هذه الكلمات ( تعالوا بسرعة) كالمجانين .بعدها أمر آمر اللواء وقال: أذهبوا بسرعة وأجمعوا قواتكم لنذهب لكسر الحصار .
وقد تهيئنا للخروج من القرية مع طلوع الفجر ليوم 16/3/1988م(25/12/1366 ه.ش) ، فإذا بنا نسمع صوت صفير الأطلاقات النارية للقوات الإيرانية ، فملأ قلوبنا الخوف والرعب ، وإذا بهم قد حاصروا كل القرية التي كنا فيها ، وبهذه الإطلاقات أرادوا أن يضطرونا للتسليم ، وفهمنا بأن الإيرانيين كانوا يتعقبوننا منذ فترة وكانوا بإنتظار اللحظة المناسبة لمحاصرتنا ، وعندما تم ذلك أمطرونا بوابل قذائفهم ، فسقطت كل بيوت القرية بأيدي الإيرانيين ، عدا البيت الذي كنا فيه مع آمر اللواء ، فإنه لم يرض بالإستسلام وكان في عناده لايقل عن صدام . وبسبب ذلك زادت اطلاقاتهم النارية علينا بحيث سقط الكثير من الافراد في زوايا البيت مخضبين بدمائهم ، و ان بعض افراد القوات الايرانية قد رصدونا بصعودهم على صخرة ، والبعض الآخر قاموا بمحاصرة كاملة للبيت ، خيم السكوت للحظات قليلة، بعد ذلك قطع الهدوء المؤقت بانفجار قنبلة يدوية قد خرقت جدار البيت و سقطت داخله و قد استمر سقوط القنابل اليدوية واحدة تلو الاخرى جعلت الافراد يتساقطون على الارض فمنهم من قتل ومنهم من كان يئنّ من شدة الالم ، وفي الوقت الذي لم تجبر القنابل اليدوية ذلك الآمر المغرور والاناني بالإستسلام ، فان اطلاقات اللآربي جي قد اطلقت علينا بكثافه بحيث ان محافظي آمر اللواء لم يبق منهم سوى شخص واحد وان كل من:آمري الكتائب ، معاون آمر اللواء ، رئيس الأركان،والعقيد ، كلهم قد قتلوا الا ان امر اللواء بقي على عناده ، الى ان سمع زئير محركات اثنين من الدبابات الايرانية كانت قد توجهت نحونا ،في ذلك الوقت قال لنا بوجه عابس وحزين : انزعوا رتبكم ، اتلفوا كل ما تملكونه من التقارير ،الا ان احد الجنود اخذ قطعه من الخشب خباها تحت ثيابه وشيئا فشيئا ذهب باتجاه باب الخروج ، ونحن قد حبسنا انفاسنا وكادت قلوبنا ان تقف من الخوف، ولم يتصور احد هل سوف يقتل ام يبقى حيا حتى اللحظات أخرى ، بعد ذلك خيم الهدوء على القريه وعليه فاننا قد تجرانا وباطمئنان رفعنا ايادينا فوق رؤوسنا وخرجنا واحدا تلو الاخر من البيت ، وقد ادهشنا ان الذين جعلونا نستسلم لم يكونوا سوى مجموعة من الشباب حديثي السن وقد قابلونا بوجوه باسمه وبشوشة ، قد اخجلونا باخلاقهم الطيبة ،إذ إننا قبل عدة دقائق كنا نطلق النيران عشوائياً عليهم كي نبقى سالمين لكننا الآن نواجه اشخاصاً ذو رحمة قدموا لنا الخبز و الماء و البسكويت و سقوا جرحانا الماء و عندما شاهدت تعاملهم الحسن معنا فانني قد اعطيتهم كل ما عندي من المعلومات التي امتلكها. تم/
المصدر: «كتاب فرار از حلبجه» (الهروب من حلبجه)، ترجمة حميد محمدي، نشر«حوزه هنري»، عام 1993م./1372 ه.ش
http://www.chemical-victim.com/khaterat-ar2.aspx
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق